علمٌ قضائيٌ بارز ، وشاعِرٌ مُرهف وصحافي سابق مؤسس صوت البقاع، ذلك هو باختصار القاضي الراحل والأديب محمد شمس الدين. والذين عرفوه أحبوا فيه تلك الصّفات المميزة التي تشدّك اليه مثل التواضع الجمّ، والضمير الحي والوطنية الثاقبة، حيث كانت له في كل مناسبة وقفة وفي كل حدثٍ إيحاءً يترجمه من خلال المِداد شعراً ونثراً ، من فوق المنابر أو على صفحات الجرائد والكتب.
وُلد الأستاذ محمد شمس الدين في بلدة جب جنين – البقاع الغربي في آذار 1926. نشأ في أسرة علم وأدب. فوالده هو مفتي زحلة والبقاع الراحل الشيخ حسين شمس الدين.
نشأ في مرحلة كانت تتّسم بشظف العيش، في منطقة يلفها الحرمان، فكانت بداية الطريق الذي اختطه لنفسه لنفض غبار الأهمال والحث على النهضة واللحاق بركب التقدم الإجتماعي والثقافي، وبإرادة لا تخلو من العصامية استطاع أن يشق عباب الحياة ويُسمِع صوتهْ، كاسباً لقب فتى البقاع.
دراسته:
الصفوف الأولى بدأها في بلدته جب جنين، ثم انتقل وهو بَعْدُ يافعاً الى دمشق حيث أكمل دراسته الإبتدائية ثم الثانوية في مدرسة التجهيز الأولى . بعدها دخل معهد الحقوق في دمشق حيث تخرّج منه بدرجة الإجازة في العام 1950 ، تلاهُ انتساب الى معهد الحقوق في بيروت والحصول على دبلوم في القانون اللبناني العام 1951 تميّز دوره الطالبي في الجامعة بدمشق باشرافه على مجلة " دنيا الجامعة " فكان ينشر المقالات والقصائد ويقابل الطلاب ويحثهم على تنمية مداركهم الفكرية. ولا ينسَ زملاؤه في تلك الفترة قصائده الزاخرة بالوطنية يلقيها من على مدرج الجامعة.
عمله:
بعد تخرجه ، مارس المحاماة والتعليم في بيروت والبقاع. وأصدر مجلة صوت البقاع في العام 1953 وكانت بحسب شعارها " المجلة التي تربط لبنان المقيم والمغترب" وهي كانت أيضاً تحمل مطالب المواطنين الى المسؤولين وفيها زوايا أدبية واجتماعية . واستمرت في الصدور حتى أوائل 1954.
دخل سلك القضاء في العام 1956 حيث تنقل شمالاً في طرابلس وجنوباً في النبطية الى أن استقرّ في مدينة طرابلس في العام 1960 ووصل الى مركز مستشار لمحكمة اسئناف لبنان الشمالي وظل كذلك حتى وفاته في العام 1988. ولقد عُرف عنه سعة إطلاعه في مجال القانون وتطبيق أسس العدالة بتجردٍ ونزاهةٍ مشهودتين.
للقاضي شمس الدين مساهمة فعّالة في العديد من الدّراسات القانونية والإصدارات نذكر منها:
- قطوف حقوقية ، صدر في العام 1980
- شرح قانون الإيجارات 1982
- نظام التسجيل العقاري في لبنان وسوريا 1987
- دراسة في انحراف الأحداث نتيجة الصراع الحضاري.
نشاطاته الثقافية توزّعت بين نشر القصائد في صحف لبنانية وعربية نذكر منها: " النهار" و " الكفاح" ومجلة العربي و " الأديب" وغيرها .... إضافة الى ندوات شعرية إذاعية وأمسيات .
له ديوانان مخطوطان / " اوتار الصبا" و " عند مجرى العبير ".
شعره ومقتطفات:
موهبته الشعرية بدأت تتفتح منذ الرابعة عشرة، حيث حاز إعجاب الأهل والأصدقاء. وفي أوائل العشرينات من العمر أصبح لديه مجموعة قصائِد كتبها في مناسبات مختلفة، وبأسلوبٍ متميزٍ أسماها " أوتار الصبا ".
من بواكيره الشعرية يقول في "خيمة":
وكانت لنا خيمة في العراء على السفح ، فتانة المشهدِ
تدلت عليها الدوالي فأمست عناقيدهـا الحمر طوع اليدِ
نحـنّ اليها إذا مــا دعــانـا رسـول الصبـابة والموعدِ
أصدر اول كتاب شعري مطبوع في العام 1950 بعنوان " النازحة " وهو يتحدث عن نكبة فلسطين.
يومها كتب له الشاعر الكبير نزار قباني رسالة، بعد قراءته يقول فيها: " شعرك يتميّز بغنى الروح، ورشاقة الأبعاد وأناقة الحرف، وموسقة الكلمة .... إن الذي يستمع الى هدير أغانيك ليحِسّ بتجعّد شعورك ونقرات شرايينك وعذاب جبينك.... ماذا يريد القارىء من الشاعر أكثر من هذا .... هذا هو الشعر".
يقول في إحدى قصائده :
فلسطين .... انفضي عن محجر التاريخ آلاما
وداري دمــعة اليــأس، كفاك اليـــأسُ هدّامــا
على تربتك المعطار.... لاقى الأردن الشامـا
وغنّــــى الأرز للدنيــــا أناشــــيداً وأنغامــــا
وذاب النيـــل أشواقاً وجُــنّ الــبيت أحلامـــا
أحاط في شعره بأغلب المواضيع وله في الوصف والفخر والغزل والشعر الوطني الكثير من القصائد اللافتة.
يقول في غزل " للحرية " :
ليت نجماً في سماء المشرقٍ حين يهوي من فؤادي يستقي
ينثر الورد على أرجوحتــي ثم يلقي عـــطره في مفرقــي
علني أبني مــن الورد لهـــا الفُ قصرٍ في حدود الأفق...
وفي قصيدة أخرى، يقول عن " وطنه لبنان " :
مــن تــراه أعز مـن لبنانــي في ضلوعي غرامه وكياني
وطن الحبّ والبهاء ومهوى كل حســنٍ وروعة وافتتـــانِ
وطن الدين فالنّبي وعيسـى في سـماه وأرضــه نعمتــان
يذكر الكثيرون، من أبناء القرية والجوار الأمسية التي أقيمت في ليلة من ليالي صيف 1969.... كانت له وقفة مع قصائد منتقاة له .... منها هذه :
الى رواد القمر
مهما علوتم وجزتم برزخ الغُرَرِ يظلُ أكبر رب الشمس والقمـــر
يظل أكــــبر مـــن سوّاكم بشــراً وقال كوني فكانت أجمل الصور
أحلى على القلب من لونا(1) وأبولكم(2) منع الحروب وقتل الناس بالزّمر
ماذا على الكوكب الفضي من أثر غير السراب ووهــم غيَر منتَظَر
عوداً الى الروح نسمو في معارجها الى العلاء ونــــجلو ظلمة الكــدر
آمنت بالحق يشفي النفس من طمع آمنت بالعدل يمـــحو فقر مفتقـــر
(1) لونا : مركبة الفضاء الروسية
(2) أبولو : مركبة الفضاء الأميركية التي حطت الأدلى على القمر في تموز 1969
ولقد كانت له وقفات شعرية عديدة في موضوع الإغتراب اللبناني والحنين الدائم الى الوطن الأم الذي يَستعرُ في نفوس أبنائه.... يقول في قصيدة "لقاء المهاجر" المفعمة بالشعور وشوق اللقاء:
أقبـــــلتَ فـــالدنيا بشـــائر ومرابعٌ فرحى ، زواهر
وهتاف أودية وبوح ربابةٍ ونــشيد شــاعـــر .....
وصـــلاة مـــئذنةٍ ترجّـــع خفق ناقوس مجـــــاور
وحنين أم جمّعــــت أفراحــــها لغدِ المُـــسافر
في مهرجان مفعم بـــــالطيب خفاق المشــاعر
جُمعت به الأشواق ، والتقت الموارد بالمصادر
الله يــا لبنان .... حين يؤوب للدار المهاجـــر
أو ذاكرٌ تــلك العشيـــات المطيبة الســـواهرُ ....
ومن قصيدة اخرى "الرحيل والسنونو" نقتطف:
حينما تعصفُ أرياحُ الخريف ويوارى الصيف في رمس الزمن
تترك الأوكارَ بالدّمع الذريف من عيون علقت أرضَ الوطـــــن
وإذا مـــــا ودّعت أوكارَهـــا وغدت تنساب في بحر الفضــاء
عــانقت أشـــواقها تذكارهــا صـور الفجر ، وأحلام المساء ...
نلتقي بعد فـــراق أو شتــات في الحمى أهل هوى او أصدقاء..
خفقت للحــــبّ فينا نسمــات فشدَت أرواحنــــــا لحن الوفــــاء
إنها لمحة عامة عن القاضي الشاعر ، مع تمنٍ على الهيئات الثقافية والأدبية، بشقيها الخاص والعام، ان تولي تلك الباقة من مفكرينا وشعرائنا الإهتمام المناسب وذلك تقديراً لمساهماتهم في إغناء التراث الوطني بتكريمهم غائبين أم حاضرين ، كونهم أضافوا مداميك المجد والجمال الى الحضارة الوطنية والإنسانية.